تتميز الأساطير القديمة، على اختلاف ثقافاتها، بتخيلاتها الغريبة والمثيرة التي تتجسد في كائنات لا تمت للواقع بصلة، لكنها شكلت جزءًا مهمًا من خيال الشعوب ومعتقداتهم. فالحيوانات الأسطورية لم تكن مجرد حكايات للتسلية، بل حملت رموزًا ودلالات عميقة، بعضها ظل حيًا في الذاكرة الشعبية لآلاف السنين، ووجد طريقه لاحقًا إلى الأدب والسينما كجزء من الخيال الإبداعي البشري. وفيما يلي نتناول أبرز هذه المخلوقات العجيبة التي حيّرت الناس على مر العصور.
“أمت” أو “آكل الموتى”: كابوس العالم السفلي في مصر القديمة
في الأساطير المصرية القديمة، كان “أمت” أو “آكل الموتى” يجسد رعبًا حقيقيًا يلاحق أرواح الموتى. فقد كان هذا الوحش الهجين الذي يجمع صفات التمساح، الأسد، وفرس النهر، ينتظر الأرواح التي تمر بعملية المحاكمة بعد الموت. وطبقًا للمعتقدات، إذا كان قلب الميت غير نقي ومثقلًا بالذنوب، فإن أمت يلتهمه، مما يعني اختفاء الشخص نهائيًا دون فرصة للنعيم الأبدي.
ورغم هذا الدور المرعب، لم يُعتبر “أمت” إلهًا عند المصريين القدماء، بل كان مجرد وسيلة رمزية للترهيب، تؤكد على أهمية اتباع تعاليم “ماعت” – إلهة الحق والعدالة والنظام في العقيدة المصرية.
البازيليسك: نظرة تقتل
من أكثر الوحوش الأسطورية رعبًا في الأساطير الأوروبية هو “البازيليسك”، الكائن الذي يُقال إنه يقتل بمجرد النظر. أولى الإشارات إليه تعود إلى القرن الأول الميلادي في كتاب “التاريخ الطبيعي” للمؤرخ الروماني بليني الأكبر، الذي وصفه بأنه يشبه الأفعى، ويتميز بعلامة على رأسه تشبه التاج.
مع مرور الوقت، تطورت صورة البازيليسك ليصبح مخلوقًا برأس ديك وجناحين يشبهان التنين، وله ذيل مسموم. وكان يُعتقد أن أنفاسه قاتلة، ونظرته تميت فورًا، إلا أن حيوان “العرسيات” كان الوحيد الذي يُعتقد أنه منيع أمام سمه.
ولمواجهة هذا الوحش، لجأ الصيادون حسب الأسطورة إلى استخدام المرايا حتى يرى البازيليسك انعكاس نظرته القاتلة ويموت بها – على غرار حكاية ميدوسا الشهيرة.
طائر الرخ: العملاق القادر على خطف الأفيال
اشتهرت الأساطير العربية بطائر الرخ، وهو طائر عملاق يمتلك قوة خارقة تمكّنه من حمل فيل والطيران به. وقد بلغت المسافة بين جناحيه أكثر من 15 مترًا، أي ما يعادل ارتفاع مبنى من خمسة طوابق.
وقد ذُكر هذا الطائر في رحلة ابن بطوطة، وكذلك في “ألف ليلة وليلة” ضمن قصة السندباد البحري. كما أشار إليه الرحالة ماركو بولو، موضحًا أن الرخ يصطاد فريسته بإسقاطها من مرتفعات عالية قبل التهامها.
ويرجّح بعض الباحثين أن أسطورة الرخ ربما كانت مستوحاة من مشاهدات واقعية لطائر “الفيل”، وهو طائر ضخم غير قادر على الطيران، عاش في مدغشقر حتى القرن السابع عشر الميلادي.
الهيبالكتريون: الحصان-الديك
من أكثر الكائنات الغريبة في الأساطير الإغريقية هو “الهيبالكتريون”، والذي يتكوّن من نصف أمامي يشبه الحصان، ونصف خلفي لدَيك كامل، ذيلًا وقدميْن. وقد ظهرت أقدم صوره في القرن التاسع قبل الميلاد على أوانٍ ودروع أثينية.
اسم المخلوق مشتق من اليونانية ويعني “الحصان الديك”، وقد تباينت الآراء حوله؛ فمنهم من اعتبره مقززًا، ومنهم من وجده جذابًا في غرابته. لكن المؤكد أن له دلالة رمزية، حيث يُعتقد أن الحصان يرمز إلى رحلة آمنة للحياة الآخرة، في حين أن الديك يرمز لطرد الأرواح الشريرة المرتبطة بظلام الليل، إذ يُعرف بندائه عند بزوغ الفجر.
الهيبوكامبوس: حصان البحر الأسطوري
يُعد “الهيبوكامبوس” من الكائنات الهجينة التي ارتبطت بإله البحر بوسيدون في الميثولوجيا الإغريقية. ويتكوّن هذا المخلوق من الجزء الأمامي لحصان، والخلفي لسمكة، وهو أقرب ما يكون إلى شكل فرس البحر المعروف.
وقد ظهر في الأساطير الفينيقية والإغريقية، وذكره الشاعر هومر في ملحمة الإلياذة، حيث وصف مركبة بوسيدون التي تجرها هذه الكائنات على سطح الماء. كما صوّره الشاعر أبولونيوس الروديسي وهو يخرج من أعماق البحر نحو اليابسة.
ولا تزال صورة الهيبوكامبوس حاضرة في بعض الشعارات الوطنية، ويُعرف أيضًا باسم “الهيبوكامي” في الاستخدامات الحديثة.
المانتيكور: المفترس البشري
المانتيكور، أو “آكل البشر”، يُعد من أبشع المخلوقات الأسطورية في الفولكلور الفارسي القديم. فهو يمتلك جسد أسد، ووجه إنسان، وذيل عقرب، بينما تشير بعض الروايات إلى أن ذيله مغطى بالأشواك السامة.
انتقلت هذه الأسطورة إلى أوروبا في القرن الخامس قبل الميلاد عبر مؤرخين يونانيين مثل كتيسياس، الذي وصفه بأنه مفترس يهوى التهام اللحم البشري.
وبحسب الحكايات، يستخدم المانتيكور ذيله السام لشلّ ضحاياه، ثم يهاجمهم بسرعة فائقة، ويقال إن لديه القدرة على إطلاق أشواك كالرماح. وبفضل أسنانه الحادة والمزدوجة مثل أسماك القرش، يلتهم الضحايا دون أن يترك أثرًا لوجودهم.
الجريفين: رمز القوة والحماية
يُعد “الجريفين” أحد أشهر الحيوانات الأسطورية في تاريخ البشرية، ولا يزال يحظى بشعبية كبيرة في ألعاب الفيديو وأفلام الفانتازيا حتى يومنا هذا. يتكوّن هذا المخلوق من جسم وأرجل خلفية تشبه الأسد، بينما الجزء الأمامي منه عبارة عن جناحين، منقار، ومخالب لعقاب.
وقد نشأت أسطورته في منطقة الشرق الأوسط، لكنها سرعان ما انتشرت في الأدب الإغريقي، ثم الأوروبي. وتشير الرسوم القديمة في الفن الإيراني والمصري إلى وجود تصوّرات مماثلة تعود إلى ما قبل 3000 سنة قبل الميلاد.
وكان الجريفين يُعتبر رمزًا للقوة والهيبة، وارتبط دائمًا بالذهب، حيث اعتقد القدماء أنه يحرس الكنوز في الجبال. وقد كتب بليني الأكبر أن أعشاش الجريفين كانت تحتوي دائمًا على كتل من الذهب. واستمر الحديث عن هذا المخلوق في العصور الوسطى، حيث قدّر الكاتب الإنجليزي جون ماندفيل قوته بأنها تعادل قوة ثمانية أسود وعقاب واحد.
في الختام
من “أمت” مرعب المصريين القدماء إلى “الجريفين” حارس الذهب، شكّلت هذه الكائنات الخرافية جزءًا لا يتجزأ من المخيلة البشرية عبر العصور. فهي ليست مجرد رموز للترهيب أو البطولة، بل تعبير عميق عن القيم والمخاوف والطموحات التي سكنت قلوب البشر، وعكست كيف سعى الإنسان لفهم العالم من حوله عبر الحكايات والأساطير.