لماذا نُطلق على “الفكة” اسم “فلوس فضة”؟ وهل كانت تُصنع من الفضة فعلًا؟

لماذا نُطلق على "الفكة" اسم "فلوس فضة"؟ وهل كانت تُصنع من الفضة فعلًا؟

في حياتنا اليومية، كثيرًا ما نسمع جملة مألوفة في المواصلات العامة مثل: “ابعت 5 جنيه فضة ورا يا أسطى”، أو عندما نشتري شيئًا بسيطًا ويكون البائع لا يملك الباقي فيقول: “مافيش فضة والله يا أستاذ، تاخد لبان؟”. هذه العبارات تعكس عادة متجذرة في ثقافتنا، حيث نربط العملات المعدنية الصغيرة، أو ما يُعرف بـ”الفكة”، بمعدن الفضة، فنسميها ببساطة “فلوس فضة”. لكن، ما سر هذا الربط؟ وهل العملات المعدنية كانت تُصنع فعلًا من الفضة؟ ولماذا لم نطلق عليها مثلاً اسم “فلوس حديد” أو “فلوس نحاس”؟ هذا ما سنحاول فهمه في هذا المقال.

معايير اختيار المعادن لصناعة العملات

حتى نتمكن من تصنيع عملة معدنية صالحة للتداول، لا بد أن تتوفر في المعدن المستخدم عدة مواصفات ضرورية. يجب أن يكون له عمر افتراضي طويل، ويقاوم التآكل والصدأ، ويحتفظ بمظهر جيد ولمعان معقول. كذلك، يجب أن يكون من السهل تشكيله، وأن يتمتع بقيمة متوسطة — أي لا يكون ثمينًا بشكل مبالغ فيه ولا رخيصًا جدًا. والأهم من ذلك، أن يكون متوفرًا بكميات كبيرة في الطبيعة.

تلك المواصفات لا تتوفر إلا في عدد محدود من المعادن، من أبرزها الذهب، والنحاس، والألومنيوم، وبالطبع الفضة، التي كان لها النصيب الأكبر في تاريخ سك العملات المعدنية.

الفضة والعملات: علاقة بدأت منذ العصور القديمة

تعود أول عملية سك عملة معدنية في التاريخ إلى عام 600 قبل الميلاد في مملكة ليديا، الواقعة غرب الأناضول (تركيا حاليًا). في ذلك الوقت، أصدر الملك “ألييس” عملات مصنوعة من “الإلكتروم”، وهو مزيج طبيعي من الذهب والفضة يوجد في قاع الأنهار وبعض الوديان. كانت نسبة الفضة في هذا الخليط تتراوح بين 20% إلى 80%.

ولأن نهر “باكتول” في ليديا كان غنيًا بهذا المعدن، ازدهرت صناعة العملات هناك، وأُطلقت أول عملة بختم ملكي موحد تُعرف بـ”الأسد الليدي” أو “الاستاتور”. ولكن بسبب تفاوت نسبة الذهب والفضة في كل قطعة، قرر الملك “كرويسوس” (ابن ألييس) فصل المعدنين وسك عملات منفصلة من الذهب والفضة، وجعل القيمة الرسمية للعملة الذهبية تساوي عشر عملات فضية. وبهذا أصبحت الفضة عملة التعامل اليومي الأساسية، لأنها كانت أكثر عملية وأقل تكلفة من الذهب.

من ليديا إلى فارس: الفضة تنتشر في العالم

عندما غزا الفرس مملكة ليديا، أُعجب الملك كورش الكبير بفكرة العملة المعدنية، فاحتفظ بنفس تصميم العملات الليدية واستمر في استخدامها. وبعده، قام الملك “داريوس الأول” بإصدار عملة جديدة من الفضة تُعرف باسم “الدارك الفضي”، وجعل 20 قطعة منها تعادل قطعة ذهبية واحدة. وبهذا استمرت الفضة في لعب دور رئيسي في الحياة الاقتصادية اليومية.

هل تعرف أيضًا ⇐ كيف تحقق الألعاب المجانية أرباحًا ضخمة؟

الإسكندر الأكبر والعملة اليونانية الفضية

عندما انهارت الإمبراطورية الفارسية على يد الإسكندر الأكبر، روّج لعملة جديدة تُعرف بـ”الرباعية الدخمية”، وكانت مصنوعة من الفضة أيضًا. السبب في ذلك أن اليونانيين اكتشفوا كميات ضخمة من الفضة في مناجم “لوريون” القريبة من أثينا، حيث كان يُستخرج منها أكثر من 30 طنًا سنويًا.

الإسكندر لم يفرض هذه العملة كعملة رسمية موحدة، بل ترك الشعوب تستخدم ما يناسبها، سواء عملات اليونان أو فارس أو حتى العملات القديمة، لأنه كان مشغولًا بالحروب ولم يهتم بتوحيد النظام النقدي.

صعود الرومان واستمرار هيمنة الفضة

بعد وفاة الإسكندر، تراجعت الحضارة اليونانية وبرزت الإمبراطورية الرومانية. وبدورها اعتمدت على الفضة بشكل كبير، خاصة بعد اكتشاف مناجم ضخمة في إسبانيا كان يُستخرج منها أكثر من 200 طن سنويًا.

أول عملة رومانية فضية كانت “الديناري الفضي” عام 211 قبل الميلاد، وظلت تُستخدم لأكثر من ستة قرون، قبل أن تحل محلها عملة فضية أخرى تُعرف بـ”أنتونينيانوس”.

العملات الفضية في الجزيرة العربية والعهد الإسلامي

في جزيرة العرب، وقبل الإسلام، كان العرب يتداولون العملات الفضية الرومانية والفارسية. لكن مع ظهور الإسلام، بدأت الحاجة لعملة ذات طابع إسلامي مستقل. أولى المحاولات جاءت في عهد الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، حيث قام بتوحيد وزن الدراهم الفضية، وأضاف عليها نقوشًا عربية مثل: “الحمد لله” و”لا إله إلا الله محمد رسول الله”.

مع ذلك، كانت تلك العملات تُسك خارج الأراضي الإسلامية، وكانت تحمل رموزًا لملوك الروم مثل هرقل. لذا، في عهد الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان، تم إنشاء دار سك للعملات في الإسكندرية، وتحولت الدراهم إلى عملة إسلامية خالصة، تعكس الفن الإسلامي بعيدًا عن التأثيرات البيزنطية والفارسية.

الدولة العثمانية والفضة في مصر

مع فتح القسطنطينية عام 1453، بدأت الدولة العثمانية في إصدار عملاتها الفضية الخاصة، واستمرت بذلك حتى القرن الثامن عشر. ومن رحم هذه الدولة، ظهر محمد علي باشا، الذي حكم مصر وأسرته من بعده لما يقرب من 150 عامًا.

أصدر محمد علي أول عملة فضية عام 1834، وكانت “الريال الفضي” الذي يعادل 20 قرشًا. إلى جانبه، ظهرت عملات أخرى من البرونز والذهب، لكن الفضة ظلت العنصر الأساسي في سك العملات. فكان القرش، والخمسة قروش، والعشرة قروش، وحتى فئات “البارة” الصغيرة، جميعها تُصنع من الفضة.

وفي عهد الملك فاروق، ظهر الريال المعروف باسم “ريال فاروق”، عام 1939، وكان مصنوعًا من الفضة عيار 800 ويزن 28 جرامًا.

من الفضة إلى الحديد: تحوّل العملات في العصر الحديث

بعد ثورة 1952، بدأت مصر في إصدار عملات جديدة، مثل: المليم، والنكلة، والربع قرش، والخمسة وعشرون قرشًا، وكانت لا تزال تُصنع من الفضة.

لكن مع الوقت، وخاصة في عام 1967، توقفت مصر نهائيًا عن تداول العملات الفضية. السبب؟ أن القيمة السوقية للفضة أصبحت أعلى من القيمة الاسمية للعملة، مما يعني أن سك العملة أصبح خاسرًا للحكومة. نفس الأمر حدث في الولايات المتحدة، حيث كانت عملات مثل 10 و25 و50 سنتًا تُصنع من الفضة بنسبة 90%. ولكن بعد عام 1965، ارتفع سعر الفضة، فبدأ الناس يذيبون العملات ويبيعونها كفضة خام، فاختفت العملات من السوق، مما دفع الحكومة لإصدار قانون يمنع استخدام الفضة نهائيًا.

وفي مصر، عندما أُصدر الجنيه المعدني عام 2005، بدا وكأنه فضي اللون، لكنه كان مصنوعًا من النيكل، بينما الجزء الأصفر الداخلي مصنوع من النحاس. وبعد عامين فقط، ارتفعت أسعار النيكل والنحاس، فتم تحويل الجنيه والنصف جنيه إلى مواد من الحديد الصلب المطلي بالنحاس والنيكل بنسب ضئيلة.

لماذا ما زلنا نقول “فلوس فضة” حتى اليوم؟

رغم أن العملات المعدنية لم تعد تُصنع من الفضة فعليًا، إلا أن الناس ما زالوا يستخدمون لفظ “فلوس فضة” عند الحديث عن “الفكة”. هذا يعود إلى قرون من التعامل الفعلي مع العملات الفضية، حيث ظلت الفضة العملة الأكثر انتشارًا بين عامة الناس في معظم الحضارات. وبما أن الأجيال القديمة تعاملت مع الفضة في حياتها اليومية، فقد ورثت الأجيال الجديدة هذه التسمية، حتى أصبحت جزءًا من اللغة والثقافة.

ولهذا، لا تزال عبارة مثل: “هاتلي 3 جنيه فضة ورا يا أسطى” تُقال حتى اليوم، رغم أن هذه “الفضة” لم تعد من الفضة على الإطلاق.

خلاصة القول:

الفضة لم تكن مجرد معدن يُستخدم في سك العملات، بل كانت ولا تزال رمزًا للتعامل النقدي اليومي عبر مختلف العصور. ارتباطها الوثيق بالحياة الاقتصادية والاجتماعية للناس جعل اسمها مرادفًا للعملات المعدنية، حتى بعد أن اختفت من مضمونها وبقيت فقط في لفظها.