لا يوجد إنسان على وجه الأرض يتمنى أن يرى مدينته غارقة في الملوثات؛ سواء كانت أدخنة السجائر، أو غبار الأتربة، أو عوادم السيارات، أو حتى مياه الصرف الصحي المتسربة إلى الشوارع. هذا عدا عن أكياس القمامة المتراكمة أمام المنازل والتي تنزع عن المكان أدنى مقومات الحياة الكريمة والآدمية.
وعلى الرغم من أن الكثيرين يعيشون في بيئات موبوءة بالتلوث، إلا أن رؤية معاناة الآخرين في مدنٍ أشد تدهورًا يجعلنا ندرك أن هناك ما هو أسوأ. ولكن، هذا لا يعني أن نقبل بالواقع ونبرر الإهمال، بل يجب أن نعي جيدًا أن استمرار تجاهل مصادر التلوث سيجعلنا يومًا ما جزءًا من تلك المدن المنكوبة.
أونيشا النيجيرية: سماء رمادية ومياه قاتلة
تقع مدينة أونيشا على الضفة الشرقية لنهر النيجر في نيجيريا، ويقطنها ما يقرب من مليون نسمة. تعرف بأنها “مدينة الميناء” لأنها تضم أكبر ميناء داخلي في نيجيريا، مما يجعلها مركزًا حيويًا للتجارة والصناعة.
لكن هذا النشاط الاقتصادي الكثيف كان له ثمن بيئي باهظ، فوفقًا لتصنيف عام 2016، احتلت أونيشا المركز الأول عالميًا من حيث تركيز الجسيمات الدقيقة PM10 في الهواء. وتأتي هذه النسب المرتفعة نتيجة الاستخدام الكثيف لمحركات الديزل في السفن، وانتشار السيارات القديمة، بالإضافة إلى حرق القمامة بشكل يومي، مما يحوّل السماء إلى لوحة قاتمة من الدخان.
ولا يتوقف الأمر عند الهواء فقط، بل تتعرض مياه المدينة لتلوث خطير من خلال مياه الصرف الصحي، ومخلفات المصانع، والنفايات الطبية، والمعادن الثقيلة مثل الزرنيخ والزئبق والرصاص، مما يهدد حياة السكان بشكل مباشر.
جواليور الهندية: مدينة مغطاة بالغبار والدخان
في قلب ولاية “مادهيا براديش” بالهند تقع مدينة جواليور التي يزيد عدد سكانها عن 1.9 مليون نسمة. تُعرف بأنها من أكثر المدن تلوثًا في الهند، حيث يحتوي هواؤها على 176 ميكروغرام من جسيمات PM2.5 لكل متر مكعب، أي ما يفوق الحد المسموح به بأكثر من 17 مرة.
تنتشر في المدينة الدراجات النارية والتوك توك القديمة، التي تعمل بمحركات ديزل متهالكة، وتُحرق كميات هائلة من الفحم لتوليد الطاقة. كما تسهم حرارة الجو المرتفعة وسوء الطرق وقلة الغطاء النباتي في تفاقم الوضع، مما يتسبب في أمراض مثل الربو وأمراض الرئة المزمنة بين السكان.
مايلوسو القرغيزية: تلوث إشعاعي يهدد الحياة
مايلوسو في قرغيزستان، مدينة تُعرف بتاريخها في تعدين وتخصيب اليورانيوم منذ عام 1946 وحتى 1968. وعلى الرغم من توقف العمل، إلا أن النفايات الإشعاعية لا تزال موجودة في مستودعات غير آمنة ومعرضة للزلازل والانهيارات الأرضية.
في عام 2005، أدى انهيار أرضي إلى تسرب نحو 300,000 متر مكعب من هذه المخلفات إلى النهر، ما أدى إلى تدهور خصوبة الأرض، وتهديد الزراعة، وتزايد معدلات الإصابة بالسرطان إلى ضعف المعدلات الوطنية.
لا أورويا في بيرو: مدينة تموت فيها الطبيعة
في وسط بيرو تقع مدينة لا أورويا، موطن الحدادين وصهر المعادن. رغم صغر عدد سكانها (24,000 نسمة)، إلا أن نسبة التلوث فيها كارثية. إذ يؤدي صهر المعادن إلى انتشار غازات سامة تقتل النباتات وتُصيب 99% من الأطفال بارتفاع في نسب الرصاص في الدم، فضلًا عن تفشي أمراض الرئة.
يُعد مصنع أمريكي للحديد في قلب المدينة من أكبر مصادر التلوث، حيث تنبعث منه الأبخرة السامة التي تغلف المكان، وتحول الهواء إلى خطر دائم على الحياة.
تشينغتاي الصينية: مدينة مغلقة على الدخان
تعد تشينغتاي من أبرز المدن الصناعية في الصين، ويقطنها أكثر من 7 ملايين شخص. تنتج المدينة نحو 20 مليون طن من الفحم سنويًا، ويُستخدم هذا الفحم في توليد الطاقة، ما يؤدي إلى تشكّل سحب سوداء كثيفة تغطي السماء.
غالبًا ما يلجأ السكان للبقاء في منازلهم مستخدمين أجهزة تنقية الهواء، ويحرصون على متابعة مؤشرات جودة الهواء عبر هواتفهم لتحديد إمكانية الخروج. أما الأطفال، فيُمنعون من ممارسة الأنشطة الخارجية، حفاظًا على صحتهم من أمراض مثل السل.
تشيرنوبيل الأوكرانية: مدينة الأشباح
تشيرنوبيل، المدينة التي شهدت واحدة من أسوأ الكوارث النووية في التاريخ، لا تزال حتى اليوم تحمل آثار الانفجار الذي وقع في 26 أبريل 1986. الإشعاعات التي انطلقت من المفاعل غطت مساحة قدرها 2,590 كيلومتر مربع.
تم إخلاء المدينة بعد تسعة أيام من الحادث، ولكن تأثير الإشعاع لا يزال يطارد سكان المنطقة، متسببًا في ارتفاع معدلات السرطان، والتشوهات الخلقية. ويُقدر الخبراء أن المدينة تحتاج إلى 20,000 عام لتعود إلى حالتها الطبيعية.
لينفن: الموت بالفحم في الصين
مدينة لينفن الصينية، التي يسكنها أكثر من 4 ملايين نسمة، تعاني من تلوث خانق نتيجة استخراج الفحم وحرقه في محطات توليد الكهرباء. الضباب الرمادي يغطي المدينة لدرجة أن الملابس المغسولة تتحول إلى اللون الأسود إذا تُركت في الهواء.
ولا تساعد الطبيعة الجغرافية للمدينة، المحاطة بالجبال، على تهوية المكان، مما يؤدي إلى اختناق متكرر بين السكان. ويُسجل أن متوسط عمر الإنسان في لينفن أقل بعشر سنوات من المعدل العام في الصين.
زابل الإيرانية: الغبار القادم من الرياح
تُعرف مدينة زابل في إيران برياحها الشديدة التي تهب لأكثر من 120 يومًا سنويًا، مسببةً عواصف ترابية كثيفة. ومع اختفاء المسطحات الرطبة، تتراكم الأتربة عامًا بعد عام، مما يؤدي إلى بيئة خانقة مليئة بالغبار.
ويُصاب سنويًا ما لا يقل عن 500 شخص من سكان المدينة بمرض السل نتيجة هذه الظروف المناخية السيئة، مما يجعل زابل من أكثر المدن تحديًا بيئيًا في المنطقة.
دلهي: العاصمة الهندية تختنق
مدينة دلهي، واحدة من أكثر المدن اكتظاظًا بالسكان في العالم، حيث يقطنها أكثر من 16.7 مليون نسمة. صنفتها منظمة الصحة العالمية في عام 2014 كأكثر مدينة ملوثة في العالم.
يُقدر عدد الوفيات الناتجة عن تلوث الهواء في المدينة بنحو 10,500 سنويًا، كما يعاني عشرات الآلاف من الربو وسرطان الرئة. ويشبه الخبراء التنفس في دلهي بتدخين 40 سيجارة يوميًا، في ظل سعي الحكومة لاتخاذ تدابير عاجلة مثل تعطيل المصانع لفترات متقطعة.
جورجنسك الروسية: القنبلة الكيميائية الصامتة
مدينة جورجنسك في روسيا صنفتها موسوعة غينيس كأكثر مدينة ملوثة كيميائيًا في العالم، وذلك نتيجة التخلص العشوائي من أكثر من 272,000 طن من السموم والمواد الكيميائية خلال فترة الحرب الباردة.
تسرّبت هذه المواد إلى المياه والتربة، مما تسبب في ارتفاع معدل الوفيات بنسبة 260%. أما متوسط عمر الرجال في المدينة فلا يتجاوز 42 عامًا، والنساء 47 عامًا، وهي أرقام تعكس مدى الكارثة البيئية التي تعاني منها المدينة.
سؤالنا الأخير هنا: هل ننتظر حتى نصل إلى هذا الحد؟
لا شك أن التلوث البيئي بلغ مراحل حرجة في كثير من المدن حول العالم. وبينما نتأمل في معاناة الآخرين، يجب أن ندرك أن الاستهانة بالمخاطر البيئية قد تجعلنا في المستقبل نواجه المصير ذاته. لذلك، فإن الحل يبدأ من الوعي، ومن إرادة حقيقية لتغيير الواقع، حتى نحمي الأجيال القادمة من العيش في مدن تقتلهم بالهواء الذي يتنفسونه.