حكم الموسيقى عند دار الإفتاء المصرية

هل الحديث الشريف (ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف) يحرم الموسيقى تحريمًا تامًا؟ وما مدى صحة نسب هذا الحديث؟

الـجـــواب
هذا الحديث صحيح، فقد ورد عن أبي عامر أو أبي مالك الأشعري أنه سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: «ليكونن من أمتي أقوام، يستحلون الحر والحرير، والخمر والمعازف، ولينزلن أقوام إلى جنب علم، يروح عليهم بسارحة لهم، يأتيهم -يعني الفقير- لحاجة فيقولون: ارجع إلينا غدا، فيبيتهم الله، ويضع العلم، ويمسخ آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة» أخرجه الإمام البخاري في صحيحه.

ولكن هذا الحديث غير صريح في تحريم الغناء، وسبب ذلك أن الاقتران ليس بحجة، فالاقتران لا يدل على التحريم، فليس لأن المعازف اقترنت بمحرمات يكون ذلك دليلا على تحريم المعازف، فمثلا إذا قلت لك: هذا رجل يجلس طوال الليل في البار يأكل المزة ويشرب الخمر، فهذا ليس دليلًا على حرمة المزة (الفول السوداني مثلا والبطاطس المملحة)، ولكن ذلك دليل على بغض هذه الصورة، فإن كان الغناء غير مقترن بالخمر والزنى فلا يحرم، كما أن الحديث قد ذكر الحرير والحرير ليس حراما على جميع الأمة، وإنما هو محرم على الرجال فقط، والنساء تستحل الحرير.

فالحديث يبغض صورة معينة يجتمع فيها لبس الحرير والمعازف والزنا والخمر، وهذا كله حال أهل الفسق والعصيان، وهم مستحقون للعقوبة بذلك.

– فالإسلام دين واقعي لا يحلق في الخيال، لم يفترض في البشر أن يكون كل كلامهم ذكرًا، وكل صمتهم فكرًا وكل سماعهم قرآنًا، ولكن اعترف الإسلام بفطرهم وغرائزهم التي خلقهم الله عليها، وقد خلقهم الله سبحانه وتعالى يفرحون ويمرحون، ولنا في رسول الله أسوة حسنة فقد كان يطيل القيام من الليل حتى تتورم قدماه، ومع ذلك كان يحب الطيبات ويبش ويبتسم ويداعب ولا يقول إلا حقًا، وكذلك الصحابة كانوا يضحكون ويداعبون، معرفة منهم بحظ النفس وليروحوا عن أنفسهم فإن القلوب إذا كلَّتْ ملَّتْ [252/الحلال والحرام في الإسلام للقرضاوي/ط مكتبة وهبة].

والآلات الموسيقية مثل أصوات الإنسان الملحنة التي هي نغم، والنغم شيء غريزي فطري بالنسبة للإنسان، خلق معه يوم خلقه الله تعالى، وأصله يعود إلى هذه الأصوات التي تتفاوت في قوتها ومفعولها مثل أصوات الرعد والمطر وهدير البحر، كما يعود إلى أصوات أخرى للحيوانات والطيور ناعمة شجية أحيانًا، نابية مضربة أحيانًا أخرى، كصهيل الخيل ورغاء الإبل ونباح الكلاب ونواح العندليب وغناء الكروان، كلها سمعها الإنسان منذ نشأته الأولى، حتى أن الطفل ينكر صوت بوق الحافلة ويفزع منها، ويحب صوت العصافير فيهدأ وينام، فنفر الإنسان الأول مما أنكره من هذه الأصوات، وحاول تقليد ما لم ينكره، ثم آخى بين بعضها البعض فتكونت لديه ألحان تبعث في نفسه الانشراح أو الحزن، ثم ما لبث أن اخترع الإنسان آلة ليريح جسده من عناء التقليد للأصوات، ثم شارك بين صوته وصوت الآلة فكان من ذلك انسجام جديد وعمل طريف، فكان الغناء المرتبط بالمعازف. [7/مقدمة كتاب فرح الأسماع للمحقق محمد الرحموني/ط الدار العربية للكتاب].

فالغناء كلام ملحن، إما بنفس الصوت أو بآلة وهو أنواع، فمنه ما يبكي ويرقق، وهو ما كان من الشعر في الغزل، والتشوق إلى الوطن والبكاء على الشباب، والمراثي والزهد، ومنه ما يطرب، وهو ما كان في نعت الشراب، وذكر الندماء والمجالس، ومنه ما يشوق وترتاح له النفس، مثل صفة الأشجار، والزهر والمتنزهات والصيد، ومنه ما يسر ويفرح، ويحث على الكرم، وهو ما كان في المديح والفخر، ومنه ما يشجع، وهو ما كان في الحرب، وذكر الوقائع والغارات، والأسرى وغير ذلك وهذا كله يدعى غناءً. [9/4/المخصص لابن سيده/ط دار إحياء التراث العربي]

ولكي نتعرف على حكم الاستماع إلى المعازف بقصد ترويح النفس، فلنتعرض أولا إلى تعريفها ثم أقوال العلماء فيها وأدلتهم.

فالمعازف لغة: الملاهي من عَزَفَ يَعْزِفُ عَزْفَـًا، أي لَـهَا وعَزْفُ الدُّفِّ: صوتُه، والعَزْفُ: اللعب بالمعَازِفِ وهي الدفوف وغيرها مما يضرب، والعازف اللاعب بها والمغني، والعَزِيف: الصوت، وفي الحديث الذي رواه البخاري عن عائشة رضي الله عنها: “أن جاريتين كانتا تغنيان بما تعازفت الأنصار يوم بعاث” أي بما تناشدت من الأراجيز فيه، من العَزِيف وهو الصوت [2928،2929/4/لسان العرب/ط دار المعارف بتصرف].

والمعازف: هي الآلات التي يلعب بها بالضرب عليها، كالطبل والدف والعود والقانون والبيانو، أو النفخ فيها، كالمزمار و البوق، فتحدث الأصوات الملَحَّنة المتناسبة مع أصوات الغناء بتصرف الضارب أو النافخ. [28/الغناء والموسيقى لعبد الله الجديع/ط مؤسسة الريان].

والكلام إن كان يدعو إلى معصية فهو حرام إجماعًا، وإن لم يلحن، قال أبو حامد الغزالي: (الدرجة الثالثة: الموزون والمفهوم، وهو الشعر، وذلك لا يخرج إلا من حنجرة الإنسان، فيقطع بإباحة ذلك؛ لأنه ما زاد إلا كونه مفهوما، والكلام المفهوم غير حرام، والصوت الطيب الموزون غير حرام، فإذا لم يحرم الآحاد، فمن أين يحرم المجموع، نعم ينظر في ما يفهم منه، فإن كان فيه أمر محظور حرم نثره ونظمه، وحرم النطق به، سواء كان بألحان أو لم يكن، والحق فيه ما قاله الشافعي -رحمه الله- إذ قال: “الشعر كلام، فحسنه حسن وقبيحه قبيح” ومهما جاز إنشاد الشعر بغير صوت وألحان، جاز إنشاده مع الألحان، فإن أفراد المباحات إذا اجتمعت كان ذلك المجموع مباحًا، ومهما انضم مباح إلى مباح لم يحرم، إلا إذا تضمن المجموع محظورًا لا تتضمنه الآحاد، ولا محظور ههنا وكيف ينكر إنشاد الشعر وقد أنشد بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، في الحديث المتفق عليه، عن أبي هريرة أن عمر مرَّ بحسان، وهو ينشد الشعر في المسجد فلحظ إليه فقال: قد كنت أنشد وفيه من هو خير منك [1128/6/إحياء علوم الدين/ط دار الشعب].

والغناء بغير آلة جائز على رأي أكثر الفقهاء ما لم يكن كلامًا محرمًا كوصف المرأة ونحوه، قال أبو المواهب الشاذلي التونسي: ونقل هذا عن جماعة من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، وعن جماعة من التابعين، فمن الصحابة: عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وأبو عبيده بن الجراح، وبلال وعبد الله بن عمر، وحسان بن ثابت،وعائشة أم المؤمنين وغيرهم، ومن التابعين: سعيد بن المسيب وسالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، وشريح القاضي، وسعيد بن جبير، وعمر بن عبد العزيز وغيرهم، ومن غير التابعين من العلماء المجتهدين: ابن جريج والعنبري، ونقل عن: مالك، والشافعي، وأبي حنيفة وأحمد بن حنبل وسفيان بن عيينة، وأبو بكر بن مجاهد، واختاره من الشافعية الأستاذ أبو منصور البغدادي، والأستاذ أبو القاسم القشيري، وإمام الحرمين والماوردي، والروياني، وحكى الغزالي الاتفاق عليه، واختاره القاضي أبو بكر بن العربي من المالكية، ذكر ذلك في أحكام القرآن له، واختاره من الحنابلة: الخلال: صاحب الجامع، وهو مذهب الظاهرية، حكاه ابن حزم وصنف فيه، وابن طاهر المقدسي ونقل إجماع الصحابة والتابعين عليه، ونقل ابن قتيبة وتاج الدين الفزاري: مفتي الشافعية وشيخهم بدمشق: إجماع أهل الحرمين عليه. ونقله صاحب النهاية في شرح الهداية من الحنفية، وبه أخذ شمس الأيمة: السرخسي، واستدل عليه بأن أنسا: صاحب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم كان يفعل ذلك، واختاره من متأخري الأئمة، الإمام عز الدين بن عبد السلام الشافعي[50:49/فرح الأسماع برخص السماع/ط الدار العربية للكتاب بتصرف].

والآلات الموسيقية إنما تصدر صوتًا ملحَّنـًا طيبًا، والصوت الطيب لا شك في إباحة استماعه، قال رسول الله في الحديث الذي رواه الترمذي: “ما بعث الله نبيًا إلا حسن الصوت”، وفي الحديث الذي رواه أحمد وابن ماجة عنه صلى الله عليه وسلم: “لله أشد أذنًا للرجل الحسن الصوت بالقرآن من صاحب القينَةِ لِقينتِه” وقال صلى الله عليه وسلم في مدح أبي موسى الأشعري، فيما رواه الشيخان: “لقد أعطى مزمارًا من مزامير آل داود”، وقول الله تعالى: ?إن أنكر الأصوات لصوت الحمير? [لقمان: 19] يدل بمفهومه على مدح الصوت الحسن، ولو جاز أن يقال إنما أبيح ذلك بشرط أن يكون في القرآن للزمه أن يحرم سماع صوت العندليب؛ لأنه ليس من القرآن، وإذا جاز سماع صوت غفل لا معنى له، فلم لا يجوز سماع صوت يفهم منه الحكمة، والمعاني الصحيحة، وإن من الشعر لحكمة فهذا نظر في الصوت من حيث أنه طيب حسن [1125/6/إحياء علوم الدين/ط دار الشعب].

فالأصوات الموزونة إنما هي تشبيه وتقليد لصوت الحيوانات، ولم يحرم الشارع سماع صوت البلبل والعندليب، فكذلك لم يحرم سماع هذه الأصوات لوزنها، ولكن إن اقترنت بمحرم فينسحب حكم الحرمة عليها كما إذا اقترنت بمجالس الخمر أو غير ذلك فتحرم لا لذاتها ولكن لغيرها[1127/6/إحياء علوم الدين/ط دار الشعب بتصرف].

وأدلة إباحتها واستخدامها- ما لم تؤد إلى محظور شرعي- من القرآن قوله تعالى: ?وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ? [الأعراف: 157]، فالأصل في الطيبات الحل.

وقوله تعالى: ?وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ? [الجمعة: 11]، جاء في سبب نزول الآية أنهم كانوا إذا وصلت قافلتهم المنتظرة محملة بالبضائع استقبلوها بالدفوف والغناء فرحا بسلامة وصولها من ناحية، وأملا فيما يرجى أن تجلبه من مكاسب وأرباح.

قال الزمخشري في الكشاف: وكانوا إذا أقبلت العير استقبلوها بالطبل والتصفيق، فهو المراد باللهو [537/4/الكشاف للزمخشري/ط دار الكتاب العربي].

قال ابن طاهر المقدسي المعروف بابن القيسراني: وكن الجواري إذا أنكحوهن يمرون يضربون بالدف والمزامير فيتسلل الناس ويدعون رسول الله -صلى الله عليه وسلم – قائما، فعاتبهم الله عز وجل فقال: ?وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا? [الجمعة: 11]، والله عز وجل عطف اللهو على التجارة، وحكم المعطوف حكم المعطوف عليه، وبالإجماع تحليل التجارة، فثبت أن هذا الحكم مما أقره الشرع على ما كان عليه في الجاهلية، لأنه غير محتمل أن يكون النبي -صلى الله عليه وسلم- حرمه، ثم يمر به على باب المسجد يوم الجمعة، ثم يعاتب الله عز وجل من ترك رسوله -صلى الله عليه وسلم- قائما وخرج ينظر إليه ويستمع، ولم يَنزِل في تحريمه آية، ولا سَنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيه سنة، فعلمنا بذلك بقاءه على حاله [72/السماع لابن القيسراني/ط وزارة الأوقاف المصرية].

ومن السنة ما رواه البخاري ومسلم عن عائشة قالت: إن أبا بكر دخل عليها وعندها جاريتان في أيام منى تدففان، وتضربان، وفي رواية: تغنيان بما تقاولت الأنصار يوم بعاث والنبي -صلى الله عليه وسلم- متغش بثوبه، فانتهرهما أبو بكر، فكشف النبي – صلى الله عليه وسلم- عن وجهه فقال: “دعهما يا أبا بكر فإنها أيام عيد” وفي رواية “يا أبا بكر إن لكل قوم عيدا وهذا عيدنا”.

وما رواه البخاري عن الربيع بنت معوذ قالت: جاء رسول الله – صلى الله عليه وسلم- فدخل علي صبيحة بُنِيَ بِيَ، فجلس على فراشي كمجلِسكَ مني، فجعلت جويريات يضربن بدف لهن، ويندبن من قتل من آبائي يوم بدر، إلى أن قالت إحداهن: وفينا نَبِيٌّ يعلم ما في الغد، فقال: “دعي هذه وقولي الذي كنت تقولين”، وفي رواية ابن ماجة: “فقال: أما هذا فلا تقولوه، ما يعلم ما في غد إلا الله”. فوجه الدلالة من الحديثين أن هناك غناء مصحوبا بضرب الدف قد وقع من الجواري وفي بيت النبوة وأن عائشة سمعته وكذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- وقد أنكر على أبي بكر في الحديث الأول انتهاره للجاريتين، وما قاله البعض بأن هذين الحديثين يدلان على إباحة الغناء بمناسبة العيد والعرس فبقى ما عداهما على المنع، فيرد عليه بأن العيد والعرس لا يباح فيهما ما كان محرما، إنما يتوسع فيهما في بعض المباحات كالتزين وأكل الطيبات ونحوها، وأنهما يستحب فيهما إدخال السرور على النفس، وعلى الناس، فيشعر الناس فيهما بالبهجة والفرح، ويقاس عليهما كل مناسبة سارة، ولو كانت مجرد اجتماع الأصدقاء على طعام أو نحوه.

وما رواه أحمد والترمذي عن بريدة “خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض مغازيه، فلما انصرف جاءت جارية سوداء، فقالت: يا رسول الله إني نذرت إن ردك الله سالما أن أضرب بين يديك بالدف وأتغنى، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم :”إن كنت نذرت فاضربي وإلا فلا”، فجعلت تضرب، فدخل أبو بكر وهي تضرب، ثم دخل عليٌّ وهي تضرب، ثم دخل عثمان وهي تضرب، ثم دخل عمر فألقت الدف تحت استها ثم قعدت عليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الشيطان ليخاف منك يا عمر، إني كنت جالسا وهي تضرب، فدخل أبو بكر وهي تضرب، ثم دخل عليٌّ وهي تضرب، ثم دخل عثمان وهي تضرب، فلما دخلت أنت يا عمر ألقت الدف”.

قال عبد الله بن يوسف الجديع: فهذا الحديث حجة قوية في إباحة العزف والغناء بغير محذور، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في ما رواه البخاري وغيره عن عائشة أنه قال: “من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصه فلا يعصه” وقال – فيما رواه مسلم وأحمد عن عمران بن حصين-: “لا نذر في معصية الله”، وفي رواية: “لا وفاء لنذر في معصية”، فلو كانت هذه المرأة نذرت محرَّمًا لما أذن لها النبي صلى الله عليه وسلم بالوفاء به، وإنما أذن لها به لكونها نذرت مباحًا[223،222/الغناء والموسيقى في ميزان الإسلام/ط مؤسسة الريان].

وما رواه البخاري عن أبي موسى رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: “يا أبا موسى لقد أوتيت مزمارا من مزامير آل داود” يشبه صوته بصوت المزمار لحسنه وحلاوة نغمته، فلو كان المزمار محرمًا ما شبه صوت أبي موسى بالمحرم؛ وإلا كان ذمًا لا مدحًا.

قال الشوكاني: وذهب أهل المدينة ومن وافقهم من علماء الظاهر وجماعة من الصوفية إلى الترخيص في السماع ولو مع العود واليراع، وقد حكى الأستاذ أبو منصور البغدادي الشافعي في مؤلفه في السماع أن عبد الله بن جعفر كان لا يرى بالغناء بأسا ويصوغ الألحان لجواريه ويسمعها منهن على أوتاره، وكان ذلك في زمن أمير المؤمنين علي وحكى الأستاذ المذكور مثل ذلك أيضا عن القاضي شريح وسعيد بن المسيب وعطاء بن أبي رباح والزهري والشعبي وقال إمام الحرمين في النهاية وابن أبي الدم: نقل الأثبات من المؤرخين أن عبد الله بن الزبير كان له جوار عوادات، وأن ابن عمر دخل عليه وإلى جنبه عود فقال: ما هذا يا صاحب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فناوله إياه، فتأمله ابن عمر فقال: هذا ميزان شامي، قال ابن الزبير: يوزن به العقول [5205/5/إبطال دعوى الإجماع على تحريم مطلق السماع من فتاوى الشوكاني/ط دار الجيل]و[112/8/نيل الأوطار/ط دار الحديث].

قال أبو بكر بن العربي لما تكلم على إباحة الغناء: وإن زاد فيه أحد على ما كان في عهد النبي صلَّى الله عليه وسلَّم عودا يصوت عليه نغمة فقد دخل في قوله: مزمار الشيطان في بيت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم؟! فقال: دعهما فإنه يوم عيد، وإن اتصل نقر طنبور (عود) به، فلا يؤثر أيضا في تحريمه، فإنها كلها آلات تتعلق بها قلوب الضعفاء وللنفس عليها استراحة، وطرح لثقل الجد الذي لا تحمله كل نفس، ولا يتعلق به قلب، فإن تعلقت به نفس فقد سمح الشرع لها فيه[282/5/عارضة الأحوذي شرح سنن الترمذي/ط دار الكتب العلمية].

قال الشيخ أبو المواهب التونسي: “ونقل سماع الضرب بالعود عن: عبد الله بن عمر، وعبد الله بن جعفر، وعبد الله بن الزبير، ومعاوية بن أبي سفيان وعمر بن العاص، وغيرهم، ومن التابعين عن خارجة بن زيد وعبد الرحمان بن حسان، وسعيد بن المسيب، وعطاء بن أبي رباح، والشعبي، وابن أبي عتيق، وأكثر فقهاء المدينة، وحكى إباحته المارودي عن بعض الشافعية، ومال إليه الأستاذ: أبو منصور البغدادي، ونقل عن الشيخ أبي إسحاق الشيرازي أنه كان مذهبه ومشهورا عنه، وأنه لم ينقل عن أحد من العلماء أنه أنكره عليه، حكاه ابن طاهر المقدسي عنه، وكان قد عاصر الشيخ، وحكاه عن أهل المدينة، وادعى أنه لا خلاف بينهم فيه، وكان إبراهيم بن سعد: من علماء المدينة يقول بإباحته، ولا يحدث حديثا حتى يضرب به، ولما قدم بغداد واجتمع بالخليفة هارون قال له: حدثنا يا إبراهيم حديثا، ائتني بالعود يا أمير المؤمنين، قال: أتريد عود المجمر أم عود الغناء؟ قال: لا، عود الغناء، فأحضره له فضرب به وغناه ثم حدثه. وإبراهيم بن سعد أحد شيوخ الشافعي رضي الله عنه، وروى عنه البخاري، وهو إمام مجتهد مشهور، عدل بارز ثقة مأمون، ولما ضرب بالعود بين يدي هارون الرشيد قال له يا إبراهيم من قال بتحريم هذا من علمائكم؟ قال: من ربطه الله يا أمير المؤمنين. وذكر الإمام ابن عرفة – في مختصره الفقهي عن إبراهيم بن سعد – إباحة الغناء بالعود، ونقل الإمام المازري من أصحابنا المالكية عن عبد الله بن عبد الحكم أنه مكروه، وحكي عن الإمام عز الدين بن عبد السلام أنه مباح” [66:61/فرح الأسماع/ط الدار العربية للكتاب].

قال ابن كنانة في شرح الخرشي على خليل: تجوز الزمارة والبوق التي لا تلهي كل اللهو[304/3/شرح مختصر خليل للخرشي/ط دار الفكر].

نقل الإمام الشوكاني قول العلامة الفاكهاني: لم أعلم في كتاب الله ولا في السنة حديثا صحيحًا صريحا في تحريم الملاهي (يعني الآلات الموسيقية) وإنما هي ظواهر وعمومات يستأنس بها لا أدلة قطعية [117/8/نيل الأوطار للشوكاني/ط دار الحديث].

ولا يقال إن المعازف محرمة بدليل قوله تعالى: ?وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَولَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا? [الإسراء: 64]، فصوت الشيطان كل ما من شأنه الدعوة إلى معصية الله، فإن كانت المعازف وسيلة إلى المحرم فهي محرمة وأما الآية الثانية في قوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ [لقمان:6]) فتحريم لهو الحديث حكم عام يشمل كل حديث باطل يقصد به صاحبه الإضلال به عن سبيل الله، وهذا لا يتوقف على الحرمة بل ينقل صاحبه إلى الكفر، ولكن إذا أخذ لهو الحديث بقصد حسن ووسيلة لشيء حسن فلا بأس به.

ولا يقال إن المعازف محرمة بنص حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه البخاري عن أبي مالك الأشعري: أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: “ليكونن من أمتي أقوام، يستحلون الحر والحرير، والخمر والمعازف” فالمعازف في الحديث تحرم إذا كانت مجتمعة مع المحرمات السابقة، وأما باقي الأحاديث التي ورد فيها تحريم المعازف فهي إما صحيحة غير صريحة وإما صريحة غير صحيحة.

ولا يستدل على تحريمها بأقوال بعض الأئمة فإن الإمام أبا حنيفة لم يثبت عنه نص في تحريم المعازف، وأن الإمام مالك حكي عنه القفال أنه أباح الغناء والمعازف نقله الشوكاني[114/8/نيل الأوطار/ط دار الحديث] وأما قوله: إنما يفعله عندنا الفساق، محتمل أن الذين نعهدهم أو نعرفهم يسمعونه عندنا وصفهم كذا، فلا يدل على التحريم.

وهذا الجواز مقيد بما إذا لم تكن الموسيقى مقترنة بمحرم كمجلس خمر أو نساء عاريات، فإذا اقترنت بمحرم حُرِّمت، وينبغي عدم الإسراف فيه، إذ إن المباح يحرم الإسراف فيه فقال تعالى: ?وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا? [الأعراف: 31]) وينبغي أيضًا أن لا يكون الاستماع أو الاستخدام ملهيًا عن الواجبات من الصلاة وغيرها، فإذا لهت عن الواجبات فيحرم الاستماع كسائر المباحات إذا لهت عن الواجبات فتحرم.

قال الشيخ جاد الحق في فتوى حكم الاستماع إلى الموسيقى: ومن ثم نميل إلى أن سماع الموسيقى، وحضور مجالسها، وتعلمها أيا كانت آلاتها من المباحات، ما لم تكن محركة للغرائز، باعثة على الهوى والغواية والغزل والمجون، مقترنة بالخمر والرقص والفسوق والفجور، أو اتخذت وسيلة للمحرمات، أو أوقعت في المنكرات، أو ألهت عن الواجبات، لأن الحلال ما أحله الله ورسوله والحرام ما حرمه الله ورسوله[فتوى رقم 1820/موسوعة فتاوى دار الإفتاء المصرية].

وعليه وفي واقعة السؤال: فإن الاستماع إلى المعازف أو استخدامها أمر مباح، ما دام لم يقترن بمحرم، أو ألهت عن الواجبات.

المصدر: دار الإفتاء المصرية.