رياح الخماسين: الظاهرة الموسمية التي تربك الأجواء في مصر

رياح الخماسين: الظاهرة الموسمية التي تربك الأجواء في مصر

في الأيام القليلة الماضية، شهدت مصر تقلبات جوية حادة، تمثلت في عواصف ترابية ورياح شديدة حجبت أشعة الشمس حتى في وضح النهار. تزايدت التحذيرات على وسائل التواصل الاجتماعي، حيث طالب الناس بعضهم البعض بإغلاق النوافذ والانتباه أثناء القيادة، وكل ذلك بسبب ما يُعرف بـ”رياح الخماسين”. ولكن، ما هي هذه الرياح؟ وما سبب تسميتها؟ ولماذا تظهر في هذا التوقيت من كل عام؟

كيف تتكوّن الرياح على سطح الأرض؟

لفهم ظاهرة رياح الخماسين، علينا أولاً فهم آلية تكوّن الرياح على سطح الأرض. فالرياح لا تهب عشوائياً، بل هي ناتج مباشر لاختلاف درجات حرارة سطح الأرض. فأشعة الشمس لا تسخّن سطح الأرض بالتساوي؛ فهناك مناطق حارة جداً كالمناطق الاستوائية، وأخرى شديدة البرودة كالقطبية.

عندما تسخن منطقة ما، يسخن الهواء فوقها أيضاً، فيصبح أخف وزناً ويرتفع للأعلى، تاركاً فراغاً أو منطقة ذات ضغط جوي منخفض. ونتيجة لهذا الفراغ، يبدأ الهواء البارد القادم من مناطق ذات ضغط مرتفع بالتدفق نحو تلك المنطقة ليعيد التوازن. فيتحرك الهواء في دورة مستمرة، تُعرف بحركة الرياح.

الرياح الموسمية وتغيّر الفصول

بما أن أشعة الشمس ودرجات الحرارة هما العاملان الأساسيان في حركة الرياح، فإن تغيّر الفصول يؤدي إلى تغيّر في نمط الرياح. ومن هنا جاءت تسمية “الرياح الموسمية”، والتي تحدث في أوقات محددة من العام وتعود بشكل متكرر.

وفي منطقتنا، وخاصة في مصر، تظهر واحدة من أشهر هذه الرياح الموسمية في فصل الربيع، وهي رياح الخماسين.

ورياح الخماسين هي رياح موسمية تظهر في فصل الربيع، وتحديداً خلال فترة تمتد إلى حوالي خمسين يوماً، وهذا هو سبب تسميتها. لكن هذا لا يعني أنها تهب بشكل مستمر طوال هذه الأيام الخمسين، بل تنشط وتخمد عدة مرات خلال هذه الفترة.

من أين تأتي رياح الخماسين؟

كل عام، يتشكل منخفض جوي بالقرب من الصحراء الكبرى، وتحديداً قرب الجزائر، بسبب ارتفاع درجات الحرارة هناك. هذا المنخفض يعمل على سحب الهواء البارد من شمال البحر المتوسط، والهواء الجاف من الجنوب.

وبما أن الرياح لا تتحرك في خطوط مستقيمة بسبب دوران الأرض حول محورها، فإنها تنحرف – وفقاً لما يُعرف بتأثير كوريوليس – نحو الشرق في نصف الكرة الشمالي. لذلك، تتحرك هذه الرياح عبر ليبيا وتونس ومصر والسودان ولبنان والعراق وسوريا وشبه الجزيرة العربية، بل قد تمتد أحياناً لتصل إلى أوروبا.

لماذا تكون رياح الخماسين محمّلة بالغبار؟

أثناء مرورها بالصحراء الكبرى، تحمل رياح الخماسين كميات هائلة من الغبار والرمال، نظراً لسرعتها التي قد تصل إلى 140 كيلومتراً في الساعة. وعند وصولها إلى مصر، تُحوّل السماء إلى لون أصفر قاتم، وتحجب الشمس، وتؤدي إلى تدني مستوى الرؤية إلى خمس مستواه الطبيعي.

المدن المليئة بالغبار بطبيعتها تتأثر أكثر بهذه الرياح، كما أن الخطر لا يتوقف عند الرمال فقط، بل تحمل الرياح معها جزيئات دقيقة من الرصاص، وسليكات الألمنيوم، والكربونات، إضافة إلى ميكروبات وفطريات ضارة.

الأثر الصحي لرياح الخماسين

بسبب الجسيمات الدقيقة والملوثات التي تنقلها، تصدر تحذيرات للأشخاص المصابين بأمراض في الجهاز التنفسي أو الجيوب الأنفية. بل وحتى الأشخاص الأصحاء يُنصحون بارتداء الكمامات وتجنّب الخروج قدر الإمكان أثناء العواصف الترابية.

تقلبات الحرارة الشديدة

من أبرز خصائص رياح الخماسين أنها رياح جافة جداً، مما يؤدي إلى ارتفاع درجات الحرارة بمعدل قد يصل إلى 8 درجات مئوية في فترة قصيرة. لكن المدهش هو أنها تأتي عادة في مرحلتين متتاليتين: الأولى حارة جداً، تليها مرحلة باردة مفاجئة قد تتسبب في سقوط أمطار ورعد وبرق، خصوصاً في المدن الساحلية. هذا التقلب الحاد يتسبب في إرهاق الكثيرين.

الذباب الصحراوي: الزائر غير المرحب به

أحد التأثيرات غير المتوقعة لرياح الخماسين في الأيام الماضية هو انتشار الذباب الصحراوي، وهو نوع صغير من الذباب يعيش في الصحراء. جرفته الرياح حتى وصل إلى مصر، وظهر بكثافة في بعض المدن مثل مرسى مطروح.

الخطير في هذا الذباب أنه قد ينقل أمراضاً خطيرة مثل الكوليرا، التيفوئيد، التينيا، الجمرة الخبيثة، وحتى التهاب الدماغ الفيروسي. كما يؤثر سلباً على الحيوانات والنباتات، إلى جانب كونه يلدغ مثل البعوض، مما يسبب التهابات جلدية.

لحسن الحظ، فإن كميات هذا الذباب كانت محدودة خلال هذه الموجة، ولم تُسجل أضرار ملحوظة، كما أنه لا يعيش طويلاً خارج بيئته الطبيعية، لذا من المتوقع أن يختفي بمجرد انتهاء رياح الخماسين.

الجانب التاريخي لرياح الخماسين

رياح الخماسين ظاهرة قديمة معروفة منذ العصور القديمة، بل إن سكان شمال إفريقيا كانوا يعرفون توقيتها بدقة. وقد ساعدهم هذا الفهم في تجنّب أضرارها عبر العصور.

ففي حملة نابليون على مصر، على سبيل المثال، باغتت رياح الخماسين الجنود الفرنسيين، بينما كان المصريون مستعدين لها، مما كبّد الفرنسيين خسائر فادحة. وحدث أمر مشابه خلال الحرب العالمية الثانية، حيث كانت المعارك في شمال إفريقيا تتوقف مؤقتاً عندما تهب هذه العواصف.

الخماسين والتغير المناخي

على الرغم من أن رياح الخماسين تُعد ظاهرة موسمية متكررة سنوياً، إلا أن ما حدث بين أعوام 2017 إلى 2020 كان غريباً؛ حيث لم تهب هذه الرياح نهائياً طوال أربع سنوات متتالية. وقد فسّر العلماء ذلك بتأثير التغير المناخي والاحتباس الحراري على النمط الطبيعي للرياح.

لكن، في عام 2021، عادت رياح الخماسين للظهور مجدداً، وبدأت تتكرر منذ ذلك الحين، مما يشير إلى عودة جزئية للنمط المناخي التقليدي، رغم استمرار اضطرابه.

في الختام

رياح الخماسين ليست مجرد ظاهرة جوية، بل هي حدث موسمي له جذور تاريخية وتأثيرات بيئية وصحية واقتصادية ملموسة. وعلى الرغم من أن الطبيعة تتحكم فيها، فإن فهم أسبابها وآثارها يمكن أن يساعدنا في التكيف معها، خاصة في ظل التغيرات المناخية المتسارعة التي يشهدها العالم اليوم.

أضف تعليق