السر وراء موت آلاف الحيتان سنويًا: كارثة صامتة في أعماق البحار

السر وراء موت آلاف الحيتان سنويًا: كارثة صامتة في أعماق البحار

تُعد الحيتان من أروع الكائنات التي خلقها الله، فهي مخلوقات مهيبة، تعيش في مجتمعات منظمة تضم الصغار والكبار وحتى المسنين، وتتسم بحياة هادئة وسلمية في أعماق المحيطات. ومع ذلك، فإن هذا الجمال لا يعكس الواقع المؤلم الذي تتعرض له هذه الكائنات، إذ يموت آلاف الحيتان كل عام، وبعض الأنواع أصبحت على حافة الانقراض. فما الأسباب وراء هذه المأساة؟ وما الذي يمكن فعله لإنقاذها؟

صيد الحيتان: جريمة مستمرة رغم الحظر

في المحيط الأطلسي، قد تخرج الحيتان إلى سطح المياه لالتقاط أنفاسها، لكنها تفاجَأ أحيانًا بانفجار عنيف نتيجة حربات مميتة موجهة إلى رؤوسها. هذا أحد السيناريوهات المتكررة لصيد الحيتان، وهو مشهد مأساوي تكرر آلاف المرات. فبرغم أن الصيد التجاري للحيتان محظور منذ عام 1986، فإن بعض الدول مثل النرويج واليابان وآيسلندا لا تزال تواصل هذه الممارسة بأساليب ملتوية.

ومنذ منتصف الثمانينيات، قتلت هذه الدول وحدها أكثر من 40,000 حوت، مدفوعة بمصالح اقتصادية ضخمة، حيث يُعتبر سوق الحيتان من الأسواق الرابحة للغاية، بفضل الطلب على اللحوم، الدهون، الزيوت، الغضاريف، والمكملات الصحية، إضافة إلى مستحضرات التجميل والأدوية.

لكن المفاجأة أن صيد الحيتان ليس هو السبب الوحيد ولا حتى الرئيسي في موت الآلاف منها سنويًا.

الجنوح الجماعي: لغزٌ لا يزال محيرًا

ظاهرة جنوح الحيتان للشواطئ تقتل أعدادًا ضخمة منها كل عام، وأحيانًا تتجاوز أعداد ضحاياها ضحايا الصيد التجاري. في العادة، يحدث الجنوح بسبب التيارات والرياح التي تدفع الحيتان المريضة أو الميتة إلى السواحل، ولكن الغريب أن الجنوح يحدث أحيانًا بين الحيتان السليمة، بل ويحدث بشكل جماعي أيضًا.

ففي تشيلي عام 2015، جنح أكثر من 300 حوت من نوع حيتان “السي”، وفي سبتمبر 2020، شهدت جزيرة تسمانيا جنوح 460 حوتًا طيارًا، لم يتمكن المسؤولون من إنقاذ سوى أقل من 100 منهم. فهل تنتحر الحيتان كما يظن البعض؟ أم أن هناك تفسيرات علمية أكثر منطقية؟

الأسباب البيئية: من التضاريس إلى الضوضاء

هناك عدة أسباب علمية تفسر ظاهرة الجنوح، منها:

  • التضاريس الساحلية ونطاقات المد والجزر: بعض المناطق تصبح شِباكًا طبيعية للحيتان أثناء انحسار الماء، مما يجعلها محاصرة فجأة دون وسيلة للنجاة.
  • الضوضاء البحرية: من أخطر الأسباب المؤثرة، فالتلوث الصوتي الناتج عن أجهزة السونار والمسح البحري يشوّش على قدرة الحيتان في التواصل وتحديد المواقع باستخدام الإيكولكيشن (Echolocation)، وهي آلية تعتمد عليها الحيتان في الملاحة، لكنها صُممت أساسًا للعمل في المياه العميقة، لا الضحلة.
  • الأمراض والإصابات: الحيتان المصابة أو الضعيفة قد تنجرف مع التيارات وتصل إلى الشواطئ.

لكن ما الذي يفسر الجنوح الجماعي؟ الإجابة تكمن في الترابط الاجتماعي القوي بين الحيتان؛ إذ تتحرك في مجموعات مترابطة، وقد تتبع أفراد المجموعة أحدهم إذا جنح، في محاولة لإنقاذه، مما يؤدي إلى جنوح المجموعة بأكملها.

خطر التصادم مع السفن: القاتل الصامت

خطرٌ آخر لا يقل فتكًا، ويتمثل في حوادث الاصطدام مع السفن. فحركة النقل البحري تضاعفت بنسبة 300% بين عامي 1992 و2013، وتزايدت معها أحجام السفن لتصبح أشبه بجبال متحركة وسط المحيط. هذه السفن قد تصطدم بالحيتان دون أن تشعر، خصوصًا أن الحيتان لا تملك وسيلة فعالة لتجنبها.

بين عامي 2007 و2016، تم تسجيل 1200 حادث اصطدام بين السفن والحيتان، لكن الباحثين مثل مايكل فيشبخ يؤكدون أن الرقم الحقيقي أكبر بكثير، نظرًا لصعوبة رصد الحوادث التي تنتهي بموت الحيتان في الأعماق دون أن تظهر على السطح.

ولعل من أبرز الضحايا حوت شمال الأطلسي الصائب، الذي لم يتبق منه سوى نحو 400 فرد فقط، ويُعد الاصطدام بالسفن أكبر تهديد لبقائه، خصوصًا أنه يعيش في مناطق شديدة الازدحام البحري قرب سواحل أمريكا وكندا.

الحلول المقترحة: هل من أمل للنجاة؟

رغم تعقيد المشكلة، ظهرت بعض المبادرات الذكية التي تسعى لتقليل الخطر:

  1. تغيير مسارات السفن: كما حدث قرب قناة بنما، حيث تم فصل مسارات السفن عن مسارات الحيتان لتقليل فرص التصادم.
  2. تنظيم توقيت حركة السفن: بما أن الحيتان (مثل الحوت الأزرق) تصعد إلى السطح ليلًا لتتغذى على فرائسها مثل الكريل، يمكن للسفن تقليل حركتها ليلًا وزيادتها نهارًا، خاصة في المناطق التي تتقاطع مع مسارات الحيتان.
  3. تقليل سرعة السفن: وهو إجراء بسيط لكنه فعّال في تقليل حدة الاصطدامات، وتم تطبيقه بالفعل في بعض المناطق الحيوية.

ورغم أن هذه الحلول لا تكفي لإنهاء الخطر كليًا، إلا أن الوعي والاهتمام من قبل المنظمات، الباحثين، ومنصات التواصل الاجتماعي، يشكل خطوة إيجابية نحو إنقاذ هذه الكائنات الرائعة.

وهنا تتعرَّف على ⇐ أغرب الحيوانات التي ظهرت في الأساطير القديمة

خاتمة

الحيتان ليست مجرد كائنات بحرية ضخمة، بل هي جزء أساسي من النظام البيئي البحري، وتعرضها للموت بهذا الشكل المتكرر يعكس خللًا خطيرًا في علاقتنا مع الطبيعة. فهل ننجح في تغيير هذا الواقع؟ يبقى الأمل معقودًا على العلم، الوعي، والتعاون الدولي لحماية واحدة من أعظم مخلوقات الأرض.

أضف تعليق