هل جُمّد الضوء فعلاً؟ بين الواقع والخيال العلمي

هل جُمّد الضوء فعلاً؟ بين الواقع والخيال العلمي

في الخامس من مارس الماضي، نشر علماء إيطاليون من معهد تكنولوجيا النانو بإيطاليا ورقة بحثية في مجلة Nature حملت عنوان: “الصلابة الفائقة الناشئة في تكاثف البولارتون في البلورات الضوئية”. أثارت هذه الورقة ضجة كبيرة في الأوساط العلمية والإعلامية، حيث بدأت العديد من وسائل الإعلام تتحدث عن “تجميد الضوء”، وتداول البعض على مواقع التواصل الاجتماعي صورًا يُقال إنها تُظهر “الضوء المجمد”.

لكن ما حقيقة هذا الأمر؟ هل استطاع العلماء فعلًا أن يجمدوا الضوء؟ وهل هذا الأمر ممكن من الأساس؟ لنغُصّ معًا في تفاصيل القصة لفهم ما جرى بالضبط.

ما المقصود بتجميد الضوء؟

بادئ ذي بدء، يجب أن نوضّح أن مصطلح “تجميد الضوء” ليس مصطلحًا جديدًا أو مُبتدعًا في هذه الدراسة. بل هو موضوع تناوله الباحثون منذ عقود طويلة، وأُجريت حوله أبحاث ودراسات متعددة. لكن من الضروري أن نُفرّق بين ما يقصده العلماء بهذا المصطلح، وما يتصوره العامة.

فـ”تجميد الضوء” فيزيائيًا لا يعني أن الضوء يتحول إلى مكعب ثلج كما قد يوحي الاسم. بل المقصود هو إبطاء سرعة الضوء بشكل كبير، حتى يبدو كأنه “متوقف” أو “مجمد. الضوء، كما نعلم، هو أسرع شيء في الكون، وسرعته في الفراغ تبلغ تقريبًا 300,000 كيلومتر في الثانية. لكن هذه السرعة ليست ثابتة دائمًا.

متى تتغير سرعة الضوء؟

في الواقع، تتغير سرعة الضوء تبعًا للوسط الذي ينتقل فيه. فعندما يسير الضوء في الهواء أو في المواد الأخرى مثل الماء أو الزجاج، فإن ذرات هذه المواد تؤثر عليه وتُبطئ من حركته. هذا التباطؤ يتم التعبير عنه عبر ما يسمى معامل الانكسار، وكلما زاد هذا المعامل، قلت سرعة الضوء.

على سبيل المثال:

  • سرعة الضوء في الماء: 225,000 كم/ث
  • في الزجاج: 200,000 كم/ث
  • في الألماس: 125,000 كم/ث
  • في الجرمانيوم: 74,000 كم/ث

وبالتالي، بدأ العلماء يتساءلون: ما دامت هناك مواد طبيعية تُبطئ الضوء، فلماذا لا نحاول صنع مادة في المختبر تُبطئه أكثر، وربما توقفه تمامًا؟

تجربة لين هاو: أول تجميد حقيقي للضوء

في عام 1999، جاءت الباحثة لين هاو من جامعة هارفارد بفكرة مبتكرة: استخدام حالة فيزيائية تُعرف باسم تكاثف بوز-آينشتاين لإبطاء الضوء. وتكاثف بوز-آينشتاين هو حالة من حالات المادة تم التنبؤ بها عام 1924 من قبل ألبرت آينشتاين والعالم الهندي ساتيندرا بوز.

هذه الحالة تتحقق عندما يتم تبريد غاز خفيف الكثافة إلى درجة حرارة قريبة من الصفر المطلق (-273°C). عند هذه النقطة، تتصرف الذرات كأنها “كيان واحد”، وتظهر خصائص جديدة للمادة.

لين هاو استخدمت ذرات الصوديوم المُبرّدة في تكوين سحابة غازية، ثم وجهت نحوها شعاع ليزر. وكانت المفاجأة: سرعة الضوء داخل هذه السحابة انخفضت إلى 17 مترًا في الثانية فقط! بل وتمكنت لاحقًا من “حبس” نبضة ضوء داخل هذه السحابة لمدة 30 ثانية كاملة، وهو أمر مذهل بالنظر إلى طبيعة الضوء.

الأكثر إثارة، أنها استطاعت نقل السحابة الغازية بينما كانت نبضة الضوء لا تزال محبوسة داخلها، مما أعطى الانطباع بأن الضوء “تجمد” داخلها.

وندعوك الآن لتقرأ عن ⇐ أضخم الأجرام السماوية في الكون

ما الجديد في دراسة 5 مارس 2025؟

الورقة البحثية الحديثة التي نُشرت في مجلة Nature قامت بتكرار التجربة ولكن بأسلوب مختلف تمامًا. فبدلًا من استخدام غازات مبردة أو درجات حرارة منخفضة قريبة من الصفر المطلق، اعتمد العلماء الإيطاليون على شريحة من أشباه الموصلات مصنوعة من مادة تُدعى زرنيخيد الغاليوم (Gallium Arsenide).

صمم العلماء على هذه الشريحة ما يشبه متاهة مجهرية من خطوط ونتوءات معينة، كان الهدف منها أن تُبطئ حركة الضوء أو تحبسه عند مروره من خلالها. وبعد توجيه شعاع ليزر إلى الشريحة، حدث تفاعل بين الضوء والمادة، ونتج عن ذلك نوع من الجسيمات الهجينة تُسمى بولارتونات (Polaritons)، وهي عبارة عن مزيج من فوتونات (ضوء) ومادة.

هذه البولارتونات بدأت تتجمع وتنتظم في أنماط معينة، حتى شكلت ما يُعرف بـالمادة فائقة الصلابة (Supersolid)، وهي حالة فريدة تتصف بخصائص المواد الصلبة والسائلة في آنٍ معًا.

لماذا أثارت الدراسة الجدل؟

تكمن أهمية هذه الدراسة في أنها حققت نتائج مذهلة دون الحاجة للتبريد الفائق أو الغازات النادرة. فقد تمكن الباحثون من دمج الضوء ليُصبح جزءًا من مادة صلبة هجينة، دون اللجوء إلى ظروف معملية معقدة كالتي احتاجتها تجربة لين هاو.

ولأول مرة في تاريخ الأبحاث، أصبح الضوء جزءًا من مادة ذات بنية صلبة، مما دفع البعض إلى استخدام مصطلح “تجميد الضوء” بشكل مجازي. ومع ذلك، من المهم أن نُدرك أن العلماء لم يروا هذه المادة بأعينهم المجردة، بل استدلوا على وجودها من خلال الحسابات والمستشعرات.

هل هذا الإنجاز مؤكد ونهائي؟

رغم أن مجلة Nature تُعد من أرفع المجلات العلمية في العالم، إلا أن الورقة المنشورة تبقى دراسة واحدة فقط. وهذا يعني أن النتائج لا تزال بحاجة إلى تجارب أخرى مستقلة تؤكدها. ومن الممكن، كما في كثير من الأبحاث، أن تظهر مستقبلاً أخطاء في الحسابات أو في التفسير.

لكن، إذا صحّت هذه النتائج، فإنها ستكون نقطة تحول ضخمة في مجال ميكانيكا الكم، وستفتح الباب لتطورات غير مسبوقة في عدة مجالات.

واقرأ أيضًا عن ⇐ السر وراء موت آلاف الحيتان سنويًا: كارثة صامتة في أعماق البحار

ما التأثير المحتمل على التكنولوجيا؟

إذا ثبتت صحة الدراسة، فقد نكون على أعتاب ثورة تكنولوجية. حيث من الممكن أن تؤدي هذه النتائج إلى تطوير:

  • حواسيب كمومية أسرع بملايين المرات من الحواسيب الحالية.
  • موصلات فائقة تقلل أو تمنع فقدان الطاقة الكهربائية.
  • تقنيات ضوئية جديدة في مجالات الاتصالات، الليزر، والخوادم الفائقة.

كل هذا يعني أننا أمام تطور قد يُغيّر شكل المستقبل.

خاتمة

في النهاية، تجميد الضوء ليس مجرد “خدعة بصرية” أو صورة لليزر محبوس في مكعب. بل هو تعبير مجازي عن إنجاز علمي بالغ التعقيد. وما زلنا في البداية، والدراسات المقبلة ستكون حاسمة في تحديد مدى واقعية هذا الاكتشاف. فإما أن تُثبت صحته، أو تكشف ثغراته.

ومهما كانت النتيجة، فإن ما تحقق يُعتبر خطوة جريئة في فهمنا لطبيعة الضوء والمادة، وربما يكون مفتاحًا لأسرار كونية أكبر في المستقبل.