خطبة مكتوبة عن غلاء الأسعار

لدينا اليوم خطبة مكتوبة عن غلاء الأسعار. إنها هديَّة نسوقها للأئمة والخطباء في كافة الأقطار العربية والإسلامية ليتحدثوا عن هذا الداء المتفشي.

الخطبة الأولى

عباد الله: في كل يوم ينتظر الناس تغير الأوضاع فلا تزداد إلا سوءا، وينتظرون أن ترخص الأسعار فلا تزداد إلا ارتفاعا، وينتظرون توافر بعض المواد الغذائية فيتفاجؤون بندرة في أخرى، فيكثر اللغط وتتعالى الأصوات، في كثير من المجالس والمنابر الإعلامية الخاصة والعامة، الكل يدلي بدلوه، ويعطي رأيه، ويفرغ همّه ولو بمجرد الكلام، ويتبادل الناس سهام الاتهام، فهذا يحمل المسؤولية التجار، وآخر يحملها المسؤولين والحكام، وذاك يحملها عامة الناس، وآخرون يقولون هلا تكلم الإمام، عباد الله هذه سويعة سيتكلم فيها الإمام، ليقول: ما أسهل التراشق بالاتهامات، وما أكثر العاجزين عن بذل خطوات عملية ولو يسيرة في الإصلاح.

عباد الله: إنّ هذا الغمّ والتذمّر الواسع، لينم عن نجاح الشيطان في إيقاعنا في مصيدته التي حدثنا عنها الله تبارك تعالى في قوله: ﴿الشيطان يعدكم الفقر﴾، أي يخوفكم إياه، قال حمدون القصّار رضي الله عنه: «إِذَا اجتمع إبليس وجنوده لَمْ يفرحوا بشيء كفرحهم بثلاثة أشياء: وذكر منها: قلبٍ فِيهِ ‌خوف ‌الفقر» [الرسالة القشيرية].

فيا عباد الله: لا يستجرينكم الشيطان، اطمئنوا على أرزاقكم، فإنها مكفولة لكم، فلئن كان الشيطان يعدكم فقرا، فالله الغني يعدكم فضلا ورزقا، وأي الوعدين أحق؟ وعد الشيطان أم وعد الرحمن؟ فو الله لن تأكلوا ولن تشربوا ولن تلبسوا ولن تركبوا إلا كتبه الله لكم، ولن يستطيع أحد كائنا من كان أن يمنع عنكم رزقا يسوقه الله إليكم، «مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ | يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ﴾.

ما أعذبها من آيات، لشفاء القلب من الجراحات، جراحات الأزمات الاقتصادية، والمضايق المالية، قيل لسلمة بن دينار رضي الله عنه: «يَا أَبَا حَازِمٍ أَمَا تَرَى قَدْ غَلَا السِّعْرُ، فَقَالَ: وَمَا يَغُمُّكُمْ مِنْ ذَلِكَ؟ إِنَّ الَّذِي يَرْزُقُنَا فِي الرُّخْصِ هُوَ الَّذِي يَرْزُقُنَا فِي الْغَلَاءِ» [حلية الأولياء] عباد الله: اطمئنوا على أرزاقكم، فو الله لن يموت أحد منكم حتى يستكمل رزقه وأنفاسه التي كتبها الله له، ولو أن أحدكم هرب من رزقه كما يهرب من الموت للحقه رزقه كما يلحقه الموت.

عباد الله: تأتي هذه الأزمات، لتوقظ قلوبنا، وتزيل وسن الغفلة عن أعيننا، لنعلم أن المشكلة ليست مشكلة قلة مال، أو ندرة غذاء، ولا غلاء أسعار، قد قالها رسول الله ﷺ مقسما ولا يحتاج للقسم فهو الصادق المصدوق، قال: «وَاللَّهِ ما الفَقْرَ أخْشَى علَيْكُم، ولَكِنِّي أخْشَى أنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا كما بُسِطَتْ علَى مَن كانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كما تَنَافَسُوهَا، وتُهْلِكَكُمْ كما أهْلَكَتْهُمْ» ~ [البخاري]، المشكلة الحقيقية هي تعلقنا بالدنيا وركوننا إليها مع أنها فانية، المشكلة الحقيقية أن وثوقنا في أنّ الله هو الرّزاق صارا هشّا، وأن إيماننا بأن الله غني أضحى مهتزا، فقبل أن نفكر في إيجاد حلول عملية لهذه الأزمات، لابد أن نراجع إيماننا، وثقتنا بربنا، ولْنربّها على القناعة والرضا، قال رسول الله ﷺ: «قد أفلح من أسلم، ورُزق كفافاً، وقنّعه الله بما آتاه»[مسلم].

عباد الله: إن الطمأنة على الأرزاق في ظل غلاء الأسعار، لا يعني الرضا بالمنكر، ولا السكوت على الظلم والفجر الذي يقع فيه المتسببون في هذه الأزمات، فطمأنة الناس شيء، وإنكار المنكر شيء آخر، وها قد حان وقت الإنكار. فيا عباد الله: إن تجارا ممن لا خلاق لهم، ولا رحمة في قلوبهم، تلاقحت أفكارهم، وتظافرت جهودهم، على رفع الأسعار على بقية المجتمع، رضوا بأن يكونوا جنودا للشيطان، يستعملهم ليحقق غرضه من تخويف الناس من الفقر والقلة، بما يمارسونه من الأخلاقيات الدنيئة التي لا تمت بأخلاق التجارة في شيء، وعلى رأسها ظاهرة الاحتكار، وقد قال رسول الله ﷺ: «لا يحتكر إلا خاطئ»: أي أنه آثم بسبب احتكاره الذي يضر بالمسلمين فيما هو من قوتهم، قال رسول الله ﷺ: «لا ضرر ولا ضرار».

إنهم لأقوام سامحهم الله وهداهم لا يجدون فرصة صغيرة ولا كبيرة إلا اغتنموها في رفع الأسعار رفعا تشمئز منه جيوب الأغنياء فكيف بالفقراء، ولم يعد رفعها مقتصرا على المناسبات، كشهر رمضان والأعياد والدخول المدرسي، بل صار عادة نتوقعها في أي لحظة وحين، ألا فليسمع من كان هذا حاله قول رسوله ﷺ: «مَنْ دَخَلَ فِي شَيْءٍ مِنْ أَسْعَارِ الْمُسْلِمِينَ لِيُغْلِيَهُ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّ حَقًّا عَلَى اللهِ أَنْ يُقْعِدَهُ بِعُظْمٍ مِنَ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ~ [أحمد وصححه الوادعي]، أي بمكانٍ عظيمٍ من النار، أشد لهبًا وإحراقًا عياذا بالله فمن التجار يؤمن بالله واليوم الآخر يرضى لنفسه بهذا؟ ومن من التجار تنفعه أمواله وأرباحه من عذاب كهذا؟ ومتى ندرك جميعا أن المال ببركته لا بكثرته.

ومن الإنصاف عباد الله أن لا نعممّ، فإن كثيرا من التجار قلوبهم مملوءة رحمة ورأفة بإخوانهم ـ بارك الله لهم في مالهم وتجارتهم ـ لا يستغلون الأحداث والأزمات، ولا يعسرون بل ييسرون لهم قضاء الحاجات، وإنّما هم ضحايا عصابات فوقهم، فلا يعقل أن يشتري تاجر سلعة وجدها غالية، ليبيعها بثمن لا يحقق بها ربحه المعقول، فحقٌّ علينا أن نبشر أولئك التّجار الأبرار بحديث أبي سعيد الخدري أن رسول الله قال: «التَّاجِرُ الصَّدُوقُ الأَمِينُ مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ» ~ [الترمذي جود إسناده ابن تيمية].

عباد الله: ولئن كان اللوم يقع على بعض التّجار، فإنه يقع أيضا على كثير من الزبائن من عامة الناس، الذين يصدّقون كل شائعة، ويستجيبون لكل ذائعة، فتجدهم يتلهفون وراء المواد الغذائية مع وفرتها، فيأخذون حاجتهم وزيادة عن حاجتهم، فيتسببون في ندرتها أو غلائها، عجبا لهم ألهذه الدرجة تعلقت القلوب بالدنيا؟ ألهذه الدرجة نسمح للشيطان أن يتلاعب بعقولنا؟ لقد عاش أجدادنا فقرا مدقعا، واقتصادا مزريا، خاصة في زمن الاستدمار، وما سمعنا أنهم فعلوا ما نفعل اليوم، والله إنه لعيب وعار.

وعلى التجار أن لا يستجيبوا لهؤلاء الشرذمة من الناس، من أهل الطمع والهلع، فلا يبيعوهم إلا قدر حاجتهم، وإلا شاركوهم في الخطإ، ولا يحابوا في ذلك قريبا، ولنا في يوسف عليه السلام أسوة حسنة، فقد «كان من تدبيره الحسن أنه لا يكيل لكل واحد أكثر من حمل بعير» [السعدي] فيا عبد الله: هب أنك ملأت خزائنك غذاء مؤونة، هل سيؤخر ذلك في أجلك شيئا؟ وإن تأخر أجلك شيئا هل ستخلد في هذه الدنيا؟

الخطبة الثانية:

عباد الله: لنراجع أنفسنا، ولنحارب هذه الأزمة الاقتصادية بالتوكل على الله تعالى والثقة فيه، وبذل الأسباب المتاحة لديك من سبل الاسترزاق، فما رزق عبد رزقا مبارك بمثل التوكل، قال رسول الله ﷺ: «لو أنكم توكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا».

عباد الله: لنحارب هذه الأزمة بالتغافل عنها، ولا نعطها أكبر من حجمها، وسلعة على غلى سعرها فاتركها إلى غيرها، قيل لإبراهيم بن أدهم رضي الله عنه إن اللحم غلا قال فارخصوه أي لا تشتروه. ~ [حلية الأولياء]

عباد الله: أسباب غلاء الأسعار كثيرة ومهما تعددت، فيبقى أولها ما كسبت أيدي الناس من الذنوب والمعاصي، إنها حقيقة سطرها الله تعالى في كتابه، حقيقة لا تقبل المراجعة ولا الاعتراض، قال تعالى: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾، فها هو الله تعالى يذيقنا شيئا يسيرا من جزاء أعمالنا، فهلا رجعنا، وهلا تبنا واستعتبنا، فهو خير ما أزيلت به الهموم والنقم، وخير واستجلبت به العطايا والنعم، ورجوع إلى الدين بتعلم أحكامه في العبادات والمعاملات، والسؤال عما أشكل منها، ثم اتباع العلم بعمل، والمعصية بالتوبة والوجل، قال الله ﷻ: «ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليم بركات من السماء والأرض﴾.

وأبشروا عباد الله فإن الغلاء مهما طال وكثر، وإن الناس مهما أصروا على الفساد والمنكر، فمن اتقى الله تعالى في خاصة نفسه، جعل الله له من ضيقه مخرجا، ومن فقره غنى، ولو فسد الناس أجمعون، قال تعالى: ﴿ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب» ولا تغتروا بما عليه الكفار من الرفاه، رغم أنهم أبعد عن الله منا، فإنما هو رفاه ظاهره فيه الرحمة وباطنه من قبله الضنك، وإنما هم قوم عجلت لهم حسناتهم في الدنيا، فلا يجدون يوم القيامة من ذلك مثقال ذرة، قال تعالى: ﴿لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد﴾.


كانت هذه خطبة مكتوبة عن غلاء الأسعار، من إعداد الشيخ شعيب العلمي -جزاه الله خيرًا وبارك فيه-.

ويمكنكم أيضًا الاطلاع على: خطبة عن الاحتكار وغلاء الأسعار «مكتوبة» عبر موقع المزيد